الثلاثاء، 16 فبراير 2016

عن الشُهداءِ خَاصّة



لا أملكُ هنا كما في سائرِ الحديثِ عن الشّهداءِ مُبرراتِ القَولِ وأسبابَ المحبّة. في المُحصّلةِ –الخفيّةِ أحياناً- علاقتُنا بالشهداءِ هي الأختُ الشقيقةُ لعلاقتِنا بالمحبوبِ. لا يملكُ المُحبّ أسرارَ القولِ في حُبهِ لمَحبوبهِ، ولا مبرراتٍ تساقُ لمَ اختارَه على غيرِه، وإن أدركَها لما باحَ بها. فالحبّ أكمنُ في المجهولِ عن المعلومِ، وأشدُ وطئاً في مواضعِ الشغفِ عمّا سواه، والشغفُ تحدّه المعرفةً إن لاقت انتهاءً. وفي الحبّ الوافرِ لا معرفةً تُحدّ، ولا معلوماً يُدرك كلًّه، ولا شغفاً يحاطُ فيُؤمَن.

بينَنا وبينَ الشهداءِ صداقةٌ مؤجلةٌ. ندركُها فلا نستطيعُ لها حملاً، تُثقلنا بمضيِّها، وتأسرُنا بحضورِها. تهزّنا بإقدامِهم، وتثبطُنا بتأخرِنا. تأتي بهِم، وننسحُب كي لا نأتي أمامَهم بنا.

وفي ابتساماتِ الطيّبينَ عوالم، نرى فيهم محبتَنا لهُم بكلّ ما فيها من سلطتِهم على مساحاتِنا. يمتلؤون تفاؤلاً، فلا نردّ إلا تغييراً فينا. يرحلونَ شهداءَ كما بدَؤوا. نجزعُ حيناً، وننقص أملاً، حتى إذا حضَروا في مخيّلتِنا بعد حينٍ نسرُّ ونرضَى.


وأعظمُ الراحلينَ فجْعاً بالماكثينَ من زادَ أملَهُم في حياتِهِ وجعلَ في أحلامِهم ما تتعلقُ بوجودِه، فحاز قلوبَهم حوزاً لا يُخيّلُ لفقدِه استطَاعاً. وكان في الفقدِ ألمُ العدَمِ بعد النجاةِ، وألمُ المثاليّةِ التي اكتملتْ ففُقدِتْ إذ وُجدتْ، وما كان الرحيلُ إلا شرطُها وتاجُ اكتمالِها.

وما نصنعُ بعدَ الرحيلِ إلّا ما أُتيحَ لنا فلمْ نعجزْ عنهُ منْ جملةِ ما تمنيّنَا صُنعَه. نمرُّ على كلماتٍ كُتبت، نشعرُها جليّا كأنّها تتنزّلُ من أفئدتِهم توّاْ، نتوقفُ عن المتابعة، لفقدانِنا القدرةَ أو لرغبةٍ خفيّةٍ بتوقفِ الزمانِ وحفظِ كلماتِهم.


ومن أعظمِ منازلِ الراحلينَ منزلةُ التوريث. وهُم لا يُورّثون جملةَ ما لديهِم لجملةِ من حولِهم، بل انتقائيّونَ بالمتنِ والعددِ. يوّرثون صفاتِهم لمُثَلائِهم، تشعرُهم في صدقِ القولِ، ولا تدرِكُهم إلا باكتمالِ ميراثِهم، ذلك نيلُهم ما كانَ أساسَ الوراثةِ ومنبعَها. وما ذلكَ إلا للشُهداءِ..

السبت، 16 مارس 2013

مُلَّثَمو المَدينة



عند الحديث عن تفاصيل الحياة اليومية في مدينة القدس، تختلف طرق الوصول للمعلومة عن تلك التي يسلكها إنسان يسكن في رام الله عند سعيه للحديث عن نابلس، أو آخر يسكن في رفح عند حديثه عن جباليا، بل ستختلف أيضا في حالة من يسكن في الرباط عندما يبتغي الحديث عن بيروت أو أي مدينة عربية أخرى. فساكن رام الله قد يتملك صورة حية وحيدة عن القدس سجلها قبل 13 عاماً، وساكن الرباط لا يملك مثل تلك الصورة ولم يسبق له في حياته أن تعرف على شخص يملكها. وأصبح تشبيهُ مَحمود درويش عن بِلادِنَا بِفَكْرتِنَا عنِ المَجهول وَاقعَا مُتَجسدا بفكرِتنا عن بِلادِنا ذَاتها؛ ضَيِّقَةً وَواسَعة، لا حُدودَ لَها. وهنا تصبح الحاجة لتوثيق ما جرى ويجري ضرورةً، لا من باب الرفاهية التصويرية، ولكن من باب وجوب وصل الخطوط مع ما هي جزء منه وأصل لفروعه.

أستطيع بدء الحديث واثقا أن دوائر الاحتلال الأمنية كجهاز الشرطة بشقيه المدني وحرس الحدود، وجهاز الأمن الداخلي أصبحت تدرك يقينا التغيير الواقع في المدينة فيما يوصف من طرفهم بالوضع الأمني، وأن المدينة التي كانت تعد منطقة هادئة في ظل وسط مشتعل وموجع للرأس أصبحت قلبا باعثا لمحيطه بقصص المواجهة ومصدعا للرأس والأذن للحنجرة لضباط بشتى الأجهزة.


في هذه المدينة، كان مشهد المواجهة الشعبية مع الجنود غائبا منذ انقضاء الأسابيع الأولى لانتفاضة الأقصى الثانية. على الصعيد الشعبي، باتت المدينة غائبة تماما عن ردات الفعل بخصوص ما يجري من حولها، واستمر الوضع كذلك عدة أعوام حتى أنه في صيف العام 2006 أثناء عدوان الاحتلال القاتل على كل من لبنان وغزة تم إغلاق المسجد الأقصى بوجه المصلين فوق العمر 45 لِسِت جُمعٍ على التوالي عاشت المدينة حينها ركودا مستفزا لم يسجل فيها أي حالة مواجهة أو رفض لما يجري.

بدأ التحول مع بداية العدوان الصهيوني على غزة في نهاية العام 2008، حيث أعيد مشهد ضرب الحجارة ربما لأول مرة في المدينة منذ الأيام الأولى لانتفاضة الأقصى، بقيت ردة الفعل خجولة واستمرت بضعة أيام في بعض أحياء القدس.

في يوم السادس عشر من آذار للعام 2010، كانت المدينة على موعد مع يوم من أيام الانتفاضة الكبرى، أو بميزان أحداث المدينة معركة من المعارك الفاصلة، لأول مرة منذ عشرات السنين آلاف جنود الاحتلال من كافة القوات يقيمون الحواجز في كل ركن وزاوية، آليات وخيالة ومستعربون في كل مكان. على الصعيد الآخر، امتلأت أحياء المدينة عن بكرة أبيها بالشبان المنتفضين المتغطين باللثامات الغائبة حتى في مدن ومخيمات الضفة الغربية في تلك الفترة. الحجارة تنهال كالبَرَد على أفراد الشرطة، والملاحقات أشبه بأفلام الأكشن. حرب من الرصاص المطاطي وقنابل الغاز والصوت مقابل الحجارة وزجاجات المولوتوف في ما من المفترض أن يعرف بعاصمة الكيان المحتل وقلب سيطرته، هنا حيث الكاميرات في كل زاوية، والعملاء والمستعربون في كل حي. تعرّف الجيل الجديد من الفلسطينيين والعرب كافة على أسماء أحياء المدينة التي تصدرت نشرات الأخبار: "باب حطة، حارة السعدية، وادي الجوز، الطور، رأس العامود، سلوان، صورباهر".


كانت البداية قبل أسبوعين من ذلك اليوم، بدأت قوات الاحتلال بإغلاق المسجد الأقصى أمام المصلين تحت سن الخامسة والأربعين في غير أيام الجمع على غير العادة، في ظل اقتراب يوم "16\3" موعد افتتاح أكبر كنيس صهيوني داخل البلدة القديمة أطلق عليه اسم "كنيس الخراب" ، وهو ما تموله حكومة الاحتلال بشكل مباشر. وفي نفس الموعد أعلنت عدة جماعات صهيونية أنها ستقوم باقتحام المسجد الأقصى تزامنا مع إنشاء كنيس الخراب بنية البدء بمراسم إعادة الهيكل مكان الأقصى، وقامت بنشر الإعلانات في الصحف والمواقع. أمام هذه الأحداث، ردت عدة قوى بإعلان ذلك اليوم يوما للتعبئة والنفير من أجل الأقصى لمنع المجموعات الصهيونية من تحقيق مرادها.

توالت استفزازات الاحتلال للمقدسيين طوال الأسبوع الأخير من ذاك الموعد، وتم إغلاق الأقصى أمام المصلين على مدى أسبوع كامل، ثم امتد إغلاق الأقصى إلى إغلاق البلدة القديمة بالكامل أمام غير سكانها، مما أدى إلى شل الحركة التجارية للمحال المتواجدة داخلها. أصبحت البلدة القديمة ثكنة عسكرية كبيرة، وأصبح المسجد الأقصى ممنوعا على المصلين حتى من مدينة القدس، فيما فتحت أبوابه أمام السياح. كان هذا الاستفزاز والاعتداء ذروة ما استطاع تحمله أبناء المدينة، ففي هذا إهانة لكل وجودهم واعتداء على كل ما يملكون ويعرفون. تواصلت اعتداءات الاحتلال بظنها أنها هكذا ستقمع أي احتجاج ممكن أن يتولد في اليوم المنتظر، ولكن الغضب الشعبي كان أكبر من أن يقمع بآلاف الجنود، ورد المقدسيون على هذين الأسبوعين ردا بليغا أعاد تصويب البوصلة، وتعريف السيادة. أن لا سيادة على هذه المدينة ومقدساتها إلا لأهلها وأصحابها.

كانت هذه نقطة الانطلاقة فعلا، وكلما حاولت سلطات الاحتلال تمرير مناسبة صهيونية تستخدم ساحات المسجد لمستوطنيها رد المقدسيون عليهم بمواجهات أشد، وتحولت ساحات المسجد الأقصى إلى نقطة الصراع الأبرز. فيما تمكن الشبان من إيجاد آليات خاصة في المواجهة يتم فيها إغلاق أبواب المصلى القبلي التي يصعب السيطرة عليها وإبقاء باب أو بابين يتم التصدي للجنود من خلاله. وهناك لقي جنود الاحتلال إصاباتهم على أبواب المصلى القبلي للمسجد الأقصى، وفي أزقة باب حطة وحارة السعدية. أدركت سلطة الاحتلال أنها تفقد هيبتها وسيطرتها على هذه البقعة وكان لا بد لها من اتخاذ موقف جديد.

باب حطة - عدسة عطا عويسات

بدأت حملة اعتقالات واسعة في صفوف شبان البلدة القديمة، واستحدث وزير الحرب الصهيوني قرارا بحظر ما أسماه "تنظيم شباب الأقصى"، رغم عدم وجود تنظيم بهذا الاسم. ولكن الهدف كان إرهاب الشبان الذين يتصدون لقرارات الاحتلال، وتفريغ المسجد الأقصى كنقطة التقاء أو دفاع في وجه هجمات المستوطنين والشرطة. وقد تم اعتقال 11 شابا بأحكام تراوحت بين 6 أشهر والعام بموجب هذا القانون، وحتى بعد نيلهم حريتهم، تم إصدار قرار بمنع بعضهم من دخول الأقصى لستة أشهر أخرى، فضلا عن عشرات الاعتقالات الأخرى بتهم ضرب الحجارة وأحكام بالسجن لمدة 6 أشهر أو أكثر.

أما بلدة سلوان المحاذية لسور البلدة القديمة والتي أريد لها أن تتحول إلى تجمع استيطاني كبير يكون امتدادا لما أسموه بحائط "المبكى" فقد أضحى رمي الحجارة فيها على ثكنات الشرطة وبيوت المستوطنين نشاطا يوميا يقوم به الشاب بعد عودته من العمل، وطالب المدرسة بعد انتهاء دوامه، وبعد تناوله للعشاء، وباتت ليالي المستوطنين في البلدة أشبه بليالي سكان أشدود وبئر السبع أثناء الحرب بعد إضائتها واشتعالها بالألعاب النارية التي ظنها المستوطنون رصاصات كلاشنكوف وآر بي جيه من جبهات عدة.

سلوان - بعد تشييع جنازة الشهيد سامر سرحان 22-10-2010


ربما كان آخر المشاهد في يوم الجمعة الفائت المصادف لتاريخ 8\3\2013 حيث اقتحمت قوات الاحتلال ساحات الأقصى على هيئة ثلاث جبهات، وانتهى بها الأمر للانسحاب أمام ضرب الحجارة ومساندة الشبان المتحصنين بالداخل من قبل سائر المصلين المتواجدين بالساحات من شبان وشيوخ الذي رفضوا الانسحاب وترك من في الداخل وحدهم.

أثبتت أحداث المواجهة الأخيرة تغييرا واضحا في المعادلة. ففي الوقت الذي كانت لحظة اندفاع الجنود من باب المغاربة وسماع أول قنبلة نذيرا كافيا بإخلاء الساحات من كل المصلين، باتت قنابل الصوت والغاز تتساقط بين أرجل كبار السن وهم يركلونها باتجاه الجنود مجددا، وباتت الأمهات من قبة الصخرة تركضن نحو مسرح المواجهة لتقفن حائلا بأنفسهن أمام اعتقال أي من الشباب الملثمين. لقد استطاع المجتمع المقدسي أن يحقق تكافلا اجتماعيا متكاملا في وجه قوات الاحتلال الغازية، وأضحت حالة التصدي هي الأصل، والاحتلال ومن يهادنه هم الغرباء. أُسقطت أسطورة جندي القوات الخاصة في هذه الساحات أمام أول حجر، وأول مولوتوف. حتى ما كان يعرف بهيبة الشرطة والشين بيت والكاميرات والمستعربين لم يعد لها هنا أي اعتبار. وَرُبمَا كَانت الإجَابةُ الأَبْرز تِلكَ التي أَجَابت سُؤالَ البحثِ عن صاحبِ السِيادَة، وَقَارَبت الصُورة بين الاحِتلالِ على هذهِ البلادِ وجُنودِهِ في سَاحَةِ المُوَاجَهَة؛ عُبُورٌ قَصِير، وخُرُوجٌ إِجْبَاري.


الاثنين، 14 يناير 2013

آرون سوارتز وأنونيموس: التّكنُولُوجيَا ثَوْرَة!


الخامس عشر من نوفمبر 2012

"إلى أهل غزة والأراضي المحتلة، اعلموا أن "أنونيموس" تقف إلى جانبكم في هذه المعركة. سنفعل كل ما بإمكاننا لردع قوى الشر التابعة للجيش الإسرائيلي الموجهة ضدكم.
سنكون معكم. على الرغم مما سيبدو الوضع مظلما، وعلى الرغم مما قد تشعرون به من الوحدة أو الضعف، اعلموا أن هناك عشرات الآلاف منا في "أنونيموس" معكم ويعملون بلا كلل على مدار الساعة ليجلبوا لكم كل عون أو مساعدة يستطيعونها.

إلى مضطهدي الشعب الفلسطيني البريء، لقد فات أوان توقع مجيئنا. 
(1)"



كان هذا بيان مجموعة "أنونيموس" إلى الشعب الفلسطيني المستهدف في غزة عشية الحرب التي شنتها آلة الاحتلال في ذاك العام. لم تمر ثوان على نشر البيان حتى امتلأت الأخبار العالمية بعشرات مواقع الانترنت الاسرائيلية تتساقط تترى أمام هجمات أنونيموس المخططة والضاربة حول العالم، وبثت رسائل دعم الشعب الفلسطيني في معركته على كل صفحة تم اختراقها، وحشدت ساحات التواصل الاجتماعي للدفاع عن ضحايا آلة القتل الاسرائيلية، وأصبح هاشتاج "OpIsrael" –الذي يرمز إلى اسم العملية ضد اسرائيل- متصدرا عالميا على موقع تويتر.

في يوم الحادي عشر من يناير 2013، وجد "آرون سوارتز" (26 عاما) مشنوقا في غرفته في ولاية نيويورك الأمريكية، وأعلن على وسائل الإعلام أنه قام بالانتحار.
آرون سوارتز ذلك الفتى ابن الأربعة عشر ربيعا شارك نخبة من خبراء الانترنت في إصدار خدمة RSS   ذائعة الصيت الخاصة بمواقع الانترنت والمكتوبة بلغة XML. بعد انهائه المرحلة المدرسية التحق آرون بجامعة ستانفورد الشهيرة، ولم يلبث فيها عاما حتى تركها لعدم إيمانه بالنظام التعليمي السائد، ثم أسس شركة Infogami للبرمجة، وشارك في تأسيس موقع Reddit  للمشاركات الاخبارية والاجتماعية، وكان من أبرز المشاركين والمنظمين في حملة مناهضة قانون SOPA التي أراد به المشرعون الأمريكيون تشديد الرقابة والسيطرة التامة على محتوى الانترنت وما يسمى بحقوق النشر، وكان عدم تمرير القانون نجاحا كبيرا له ورفاقه.

في مقالة له كتبها عام 2008، يقول آرون: "إن المعلومات قوة. لكنها مثل أي قوة، أولئك الذين يملكونها يريدون الاحتفاظ بها لأنفسهم. إن نتاج العالم العلمي والثقافي المنشور عبر القرون في الكتب والمجلات أصبح يتخزن رقميا بشكل تصاعدي، ويغلق عليه من قبل حفنة من الشركات الخاصة. إذا أردت أن تقرأ وثائق تحمل أشهر نتائج المعرفة عليك أن تدفع أمولا باهظة لإحدى هذه الشركات. (2)"
ثم أضاف :" إن توفير المقالات العلمية لأولئك الذين هم في جامعات النخبة من العالم الأول بينما منعها عن أطفال جنوب الكرة الأرضية أمر شائن وغير مقبول."
لقد قدم آرون في ورقته مطلبا لكل من يستطيع الوصول لهذه المعلومات أن لا يجعلها حكرا عليه، واقترح فيها أن يتم مشاركة كلمات السر مع من لا يملك الحق في الوصول، أو تنزيل المعلومات وإرسالها. إنهم يصفون هذا سرقة وقرصنة، وكأن مشاركة المعرفة أمر مكافئ لسلب سفينة وقتل ركابها. إن المشاركة ليست لا أخلاقية، بل هي أساس الأخلاق.
ثم ختم رسالته قائلا: "لا عدالة هنالك في اتباع قوانين غير عادلة. لقد حان الوقت للظهور إلى النور، والبدء بعصيان مدني، ولنعلن معارضتنا للسرقة الشخصية للثقافة العامة.
بالعدد الكافي منا حول العالم، لن نرسل رسالة قوية تعارض خصخصة المعرفة فحسب، بل سنجعل ذلك من الماضي. هل ستنضم إلينا؟"

بعد ثلاثة أعوام وقعت أم القضايا وأصعب مراحل حياة آرون، عندما قام بالوصول إلى 4 مليون وثيقة علمية من موقع JSTOR ونسخها في محاولة لنشرها حول العالم لتحقيق ما دعا إليه آرون رغم جور القوانين التي تؤمن بخلاف ذلك. وكانت هذه القضية التي كان سَيُبَتُ في حكمها الشهر القادم حيث طلب الادعاء اعتقال آرون 35 عاما ودفعه غرامة مليون دولار.
لقد شكل مطلب الادعاء صدمة كبيرة لآرون، ففي عالم القانون الموجود أصبح من يكافح لنشر المعرفة مجرما يستحق أشد العقوبات. هكذا ضحّى آرون سوارتز بحياته ليحلم بعالم أفضل تسوده مبادئ العدل لا قوانين كبار المستثمرين.

لقد حول آرون وغيره من حركة الوصول المفتوح أو مجموعة أنونيموس حياتهم إلى رحلة من القتال من أجل الحقوق الغائبة، حق المساواة، وحق الوصول إلى كل جزء من المعرفة، ومنع الاحتكار، ومنع الظلم أينما كان وممن صدر.
إن هذا الجيل من المبرمجين الثائرين أعادوا صياغة أهداف التكنولوجيا من أداة رأسمالية لتحقيق أكبر قدر من الربح المادي دون أي مساواة في الحقوق بين الناس، إلى أداة قتال في وجه الظلم والجشع واحتكار المعرفة، تعيد الحقوق إلى أصحابها، وتحول الشبكة العالمية إلى عالمٍ القويُ فيها ضعيفٌ حتى يؤخذُ الحقُ منه، والضعيفُ فيها قويٌ حتى يؤخذ الحقُ له.

Knowledge Is Free. We Are Anonymous. We Are Legion.

لقد أعادوا رسم خارطة العالم لتكون مركزيتها إنسانية الإنسان، ويبحث فيها الإنسان عن العدل مبدأ لا قانونا بشريا. اليوم يكمل أفراد "أنونيموس" حول العالم ما مات آرون لأجله، ويعلنون إطلاق عملية وزارة العدل الأمريكية "OpDOJ" والتي ستكون الهدف التالي حتى تحقق مطالب إصلاح النظام القضائي والقانوني.
رحل آرون عن هذا العالم، وأنا إن أنظر إلى أمه اليوم سأذكر أم شهيد فلسطيني فقدت ابنها على حدود القطاع عندما خرج يحمي أطفال قريته بجسده، هنا تتوحّد التجربة الإنسانية وتبصر في عين الأول قصة الثاني، وفي شهادة الثاني تضحية الأول. نودع آرون وندافع عن أسرانا، ونذكر يوم خذلنا الناس وتذكرنا أفراد "أنونيموس"، واليوم ستجمع شركات إعلام رأس المال عن "انتحار مجرم" ولكنّا سنمحو ما كتبوا ونكتب فوقها :
"نفسي الفداء لكل منتصر حزين، قتل الذين يحبهم إذ كان يحمي الآخرين. يحمي بشبرٍ تحت كعبيه اتزان العقل معنى العدل في الدنيا على إطلاقه يحمي البرايا أجمعين(3)




------------------

1- بيان "عملية إسرائيل" 2012 http://goo.gl/nqKlh ترجمة خاصة
2- مقالة آرون سوارتز في إيطاليا 2008 http://goo.gl/zi5KE ترجمة خاصة
3- تميم البرغوثي، نفسي الفداء

الأربعاء، 2 يناير 2013

يافا وَجْهٌ آخَر

في العام 1939 يجلس أحد عمّال الميناء يراقب سفن البحر المتوسط ترسو هنا خفافاً وثقالاً، يضع آخر صندوق برتقال في مخزن هذه السفينة الإنجليزية بعد أن أحصى سفن اليوم. "خمسٌ وأربعون" ذلك كان عددها. يدوّن هذه المعلومة في ذاكرته جيّدا، فسيذكرها لاحقاً أمام جيلٍ آخر، لم يدرك من يافا ميناءها العربيّ، ولم يقابل بَحَّارتَها أصحابَ الحطّات البيضاء، حتى المدينة عرفها باسم غير اسمها صاحب صفة الجمال.
في يوم من أيام فلسطين كانت على هذه الأرض عاصمة البلاد الثقافية والاقتصادية، هنا مدينة المسارح والصحف والموانئ والمصانع. كانت تسمّى يافا في واقع الأمر، لم يكن هناك أثر لتل أبيبَ ولا لتل ربيعٍ على حد سواء.


jaffa port


من يافا إلى إسطنبول، وطهران، وبرلين، ولندن، وباريس كان البرتقال الذهبي يصدر فرادى وجماعات منذ العام 1865. وكانت هذه المدن وغيرها تستقبل سنويّا خمسة ملايين صندوقا من برتقالٍ أخرجته بيّارات يافا الفلسطينية.
يخرج صباحا من حي العجميّ عامل يافيّ آخر متوجهاً نحو مشغل الحديد الضخم الذي بدأ العمل به حديثاً في قلب المدينة، لم يكن يدرك أنّه سيتعرّف إلى  أصدقاء من مصر، وسوريا، والأردن، واليمن، والمغرب لمجرد انضمامه إلى عمّال هذا المشغل.
أخرج ليرة فلسطينية من جيبه ووضعها في يد سائق حافلة شركة العلمين اليافيّة، كانت تلك ثمن تذكرة الرحلة إلى بيروت حيث يتوجه هذا الطالب الفلسطيني برفقة العديد من الطلاّب والطالبات الملتحقين بجامعات بيروت. على صعيد آخر، كانت الطريق إلى القاهرة تحتاج لركوب قطار العريش-يافا عبر سكة الحديد التي وصلت المدينة بالقدس، وحيفا، وبئر السبع أيضا.
في مدينة يافا، لم تكن بحاجة لشراء الصحف لقراءتها، كنت تستطيع أن تذهب إلى أي مكتبة يوم الجمعة وتقرأ ما شئت من الصحف المحلية والعربية. أمّا عدد الصحف التي صدرت في يافا وحيفا في فترة الانتداب فقد بلغ"206"، أشهرهنّ صحيفتا فلسطين والدفاع. وبعيداً عن السياسة كانت أخبار محاصيل الزرع وإنتاج البرتقال في صحيفة "الأخبار المحليّة".
أحيت أم كلثوم عدة حفلات في هذه المدينة، وعرض يوسف وهبي عدة مسرحيات على مسارح يافا المختلفة، وكتب الأديب الفلسطيني نصري الجوزي العديد من النصوص الأدبية لتترجم كعروض مسرحية على مسارح يافا وغيرها. بجانب مقر السرايا الحكومية الذي أنشئ في العهد العثماني والذي ما زال قائما إلى اليوم كانت هناك سينما الرشيد الفلسطينية، إضافة إلى سينما الفاروق، وسينما الحمرا... إلى أن جاء يوم السادس العشرين من نيسان للعام ألف وتسعمائة وثمان وأربعين.
لقد وجدت عصابات الحركة الصهيونية في الحكايات السابقة أسبابا مقنعة لجعل المدينة الفلسطينية هدفا مركزيا لهجومها المخطّط. وكان الهدف إخماد الدور الإشعاعي الذي تلعبه المدينة مع أطرافها الريفية والقروية، وبالتالي القضاء على القيادة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الفلسطيني وقطع صلاتها مع باقي مكونات المجتمع بهدف تحويل المجتمع المترابط والحيوي إلى تجمعات ريفية متفككة لا تملك تقنيات الاتصال والقيادة على المواجهة.
وفي ذات الأثناء التي كانت العصابات الصهيونية تمضيها بهدم مكونات يافا ووجودها، كان جزء آخر من مؤسسة الاحتلال يعكف على بناء مدينة موازية تسرق كل البريق، وتحتكر كل الموارد. صادرت بحرها وميناءها، عشبها ورملها، بياراتها ومساجدها.. نُصِبت تل أبيب على الخارطة عنوة.
استمرّت حرب الاحتلال ضد المدينة الفلسطينية، وكان إنشاء ما سمّي بالناصرة العليا خطة استعمارية لوقف توسع مدينة الناصرة والسيطرة على مواردها البشرية، والاقتصادية. تكرّرت الروايّة في مدينة القدس، مُنعت رخص البناء والتوسع لأهلها في أحياء شرقي القدس، وفي المقابل أطلق العنانُ لتجمعات اليهود التجارية في غربي القدس وقرب شرقي القدس وحتّى في قلبها.


Hassan Beck Mosque Jaffa Tel Aviv

عدتُ إلى ميناء يافا، نظرتُ يمنة ويسرى، تكاد عيني لا تخطئ هؤلاء المآذن الثلاث على شاطئها، فرغم وحشية انتشار بنايات "تل أبيب" الشاهقة، تضيء مآذن كل من مسجد "حسن بيك" و"البحر" و"يافا الكبير" بالضوء الأخضر اللّامع، محدّثة كل سفينة قادمة من أعماق المتوسط: "هُنا يافا العربيّة.. ميناءُ فِلَسطين، وقلبُها النابض.. أسرارُ العاشقين، وأحلامُ المبدعين، وتضحيةٌ الشّهداء".  "- وَيْحكم." قلت لنفسي وقد ابتسمتُ من أعماقي، أخذتُ شهيقاً من هواء البحر، وتلاقتْ عيناي مع أمواجه، فككتُ رموزَ رسالةٍ ذُيّلت بتوقيعِ المقاومةِ الفلسطينية " إنّا عائدون مع "الفَجْر" ".
_______________________مصادر:
- وثائقي "اغتيال مدينة"، رامز قرموز. Jaffa, the Orange’s Clockwork ,Eyal Sivan


الجمعة، 2 نوفمبر 2012

مررنا على دار الشهيد


مررنا على دار الشهيد
نابلس من هنا بدأت


زئير حاد من رشاش كلاشنكوف يملأ الزقاق صدىً..
وكرامة.
لم يكن هذا ما سمعت، ولكن كان ما أرى الآن أثرا في أحد أروقة بلدة نابلس القديمة. 

 

Nablus Old City

في تلكم الزقاق قاتل الشهداء والملائكة، وفيها المعجزات تلمس باليدين، تروي لك حكاية من حكايات أسطورة الانتفاضة، تلك المعجزة الكبرى، والملهمة السامية. يقولون أيضا أنها انتهت، لا أعلم ما حكم الواقع فيها، ولكنّ نفسي ترفض الاعتراف بذلك، تردد أحيانا أن الانتفاضة باقية لا تموت، فهي كأسماء الشهداء، وخارطة الوطن، وشجر الزيتون، ورائحة نسيم الصباح في بلادي، أمثل هذه الأشياء تموت؟ 


بين موقع استشهاد باسم أبو سرية وموقع استشهاد رفيق دربه فادي قفيشة أصرخ بكل ما في من ألم: "يا لعظمتك يا حجارة نابلس، أي أرواح من الشهداء طافت بينك، أي دماء حويت، وأي رجال مرت بك!". 

 أمعن النظر مرارا بين مواقع النجوم، وحالي ترقب سلاما من أحد الشهداء. بدا لي أن مخيلتي قد تجاوزت الواقع، لكنها تعاند، وتبادر بالسلام علهم سمعوا، وعرفوا أن هناك من جاء لزيارتهم، وأعود موهما نفسي أنها ازددات مقاومة، أو أني تعلمت عنها ومنها، أو أني زرت المدينة في انتفاضتها. 

هل كان شهداؤك يتكلمون هذه اللهجة التي أسمعها في البلدة القديمة؟ إذن سأسميك من الآن لهجة الشهداء، ويالشهداء، ليس هنالك أجمل مما تركوا... 

ما زلت أسير باحثا عن رائحة الشهداء، كانت المهمة صعبة بعد أن ملئت المدينة برائحة الانتخابات البلدية التي كانت تجري في ذلك اليوم، وقد تأتي بعدها الانتخابات التشريعية، ثم انتخابات رئاسة "السلطة"... خلاصة الحديث أن صور الدعايات هذه قد صعبت مهمتي وعكرت صفو مزاجي، وقد تحسن السلطة صنعا لو تتخذ قرارا بعدم إجراء دعاية انتخابية في مكان تواجد به شهيد فلسطيني، مع أني لست متيقنا إن كان ذلك ممكنا، أو إن كان ذلك المكان موجودا في "فلسطين". 

سرت حتى وصلت بيت الأسير حسن الصفدي، أحد أبطال معركة الإضراب الكبرى، هنا ملأت رئتيّ بشهيق طويل، فالهواء هنا لا بد أن يكون قد حمل شيئا من حسن، إنه هواء إرادة، وليست أي إرادة، إنها إرادة هزمت الاحتلال، دولة، وحكومة، وجيشا، وحسنٌ الرائع حرٌ لحظة كتابة هذه السطور. يا لحظي، سأعود إلى القدس الآن حاملا شيئا رائعا يفرحها، سأعود لها بالأمل! 

عود على بدء، كم أتذكر الطاهر وطار "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، هكذا قال العم عابد "شهداء القرية كلهم سيعودون"، رددها العم عابد مرارا، كان واثقا جدا، فقد ترك الشهداء لنا رسالة كان العم يحملها بحرص. أعتقد أن العم عابد كان مصيبا، فشهداء القرية سيعودون، إنّ كل شهيد قد ترك شهيدا آخرا من بعده، سيخرج هذا الشهيد يوما، إنه "بالباب واقف والردى منه خائف"، هكذا سمعت إبراهيم طوقان يقول عندما مررت من بيته...