الثلاثاء، 16 فبراير 2016

عن الشُهداءِ خَاصّة



لا أملكُ هنا كما في سائرِ الحديثِ عن الشّهداءِ مُبرراتِ القَولِ وأسبابَ المحبّة. في المُحصّلةِ –الخفيّةِ أحياناً- علاقتُنا بالشهداءِ هي الأختُ الشقيقةُ لعلاقتِنا بالمحبوبِ. لا يملكُ المُحبّ أسرارَ القولِ في حُبهِ لمَحبوبهِ، ولا مبرراتٍ تساقُ لمَ اختارَه على غيرِه، وإن أدركَها لما باحَ بها. فالحبّ أكمنُ في المجهولِ عن المعلومِ، وأشدُ وطئاً في مواضعِ الشغفِ عمّا سواه، والشغفُ تحدّه المعرفةً إن لاقت انتهاءً. وفي الحبّ الوافرِ لا معرفةً تُحدّ، ولا معلوماً يُدرك كلًّه، ولا شغفاً يحاطُ فيُؤمَن.

بينَنا وبينَ الشهداءِ صداقةٌ مؤجلةٌ. ندركُها فلا نستطيعُ لها حملاً، تُثقلنا بمضيِّها، وتأسرُنا بحضورِها. تهزّنا بإقدامِهم، وتثبطُنا بتأخرِنا. تأتي بهِم، وننسحُب كي لا نأتي أمامَهم بنا.

وفي ابتساماتِ الطيّبينَ عوالم، نرى فيهم محبتَنا لهُم بكلّ ما فيها من سلطتِهم على مساحاتِنا. يمتلؤون تفاؤلاً، فلا نردّ إلا تغييراً فينا. يرحلونَ شهداءَ كما بدَؤوا. نجزعُ حيناً، وننقص أملاً، حتى إذا حضَروا في مخيّلتِنا بعد حينٍ نسرُّ ونرضَى.


وأعظمُ الراحلينَ فجْعاً بالماكثينَ من زادَ أملَهُم في حياتِهِ وجعلَ في أحلامِهم ما تتعلقُ بوجودِه، فحاز قلوبَهم حوزاً لا يُخيّلُ لفقدِه استطَاعاً. وكان في الفقدِ ألمُ العدَمِ بعد النجاةِ، وألمُ المثاليّةِ التي اكتملتْ ففُقدِتْ إذ وُجدتْ، وما كان الرحيلُ إلا شرطُها وتاجُ اكتمالِها.

وما نصنعُ بعدَ الرحيلِ إلّا ما أُتيحَ لنا فلمْ نعجزْ عنهُ منْ جملةِ ما تمنيّنَا صُنعَه. نمرُّ على كلماتٍ كُتبت، نشعرُها جليّا كأنّها تتنزّلُ من أفئدتِهم توّاْ، نتوقفُ عن المتابعة، لفقدانِنا القدرةَ أو لرغبةٍ خفيّةٍ بتوقفِ الزمانِ وحفظِ كلماتِهم.


ومن أعظمِ منازلِ الراحلينَ منزلةُ التوريث. وهُم لا يُورّثون جملةَ ما لديهِم لجملةِ من حولِهم، بل انتقائيّونَ بالمتنِ والعددِ. يوّرثون صفاتِهم لمُثَلائِهم، تشعرُهم في صدقِ القولِ، ولا تدرِكُهم إلا باكتمالِ ميراثِهم، ذلك نيلُهم ما كانَ أساسَ الوراثةِ ومنبعَها. وما ذلكَ إلا للشُهداءِ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق